الشيخ عقيلة الحاسي الحجازي الهواري

 

كتب محسن الهواري

حاكم الجليل ما يقرب من الثلاثين عاما (1840-1870) قلائل هم الذين يعرفون أي شيء عن عقيلة الحاسي، فقد تناقضت الأخبار وتضاربت الآراء عن هذا الرجل الذي سيطر على منطقة الجليل ما يقرب من الثلاثين عاما (1840-1870) وكلها تتراوح بين المدح والذم وكثرت القصص والروايات عنه ومعظمها نقلها الرواة شفويا عمن سبقهم وبعضها ما كان واقعيا وبعضها الآخر كان من صنع الخيال، فمنهم من قال انه كان انسانا شهما نبيلا حسن السمعة بينما تجمع الآراء بأن أخاه صالح كان سيء السمعة يعيبون عليه تحرشه بالنساء… هذه هي طبيعة البشر تحاول دائما أن تنسج من عندها قصصا وروايات تحرفها أو تزيد عليها كما تشاء، خصوصا عندما يطول عليها الزمن ويغيب أصحابها عن هذه الحياة… لا نعرف الكثير عن نشأة هذا الرجل وما وصل الينا من أخباره القليلة يكاد لا يذكر ، وكان معظمها مما رواه لنا الآباء والأجداد والمتقدمون في السن يحيكونها كل منهم بحسب أهوائه وبحسب اعجابه أو عدم اعجابه به… يعود أصله الى منطقة الحسا في الحجاز وينتمي الى قبيلة الهنادي… وقد ذكر المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة” ص 187 أن عقيلة ولد في غزة هاشم (ولكنه لم يحدد تاريخا لمولده) ورحل عنها الى الناصرة سنة 1845 والتحق بحاشية محمود آغا عون الله… وكان والده موسى آغا من رجال قبيلة الحاسي هجر وطنه مصر على أثر قتله لرجل من أقاربه وجاء الى غزة عام 1814 وتزوج من امرأة من عرب التركمان تدعى (خضرة الشقيري) فولد منها ثلاثة أولاد هم عقيلة وصالح وعلي… وتوفي والده عام 1830… وكان في ذلك الوقت أن شق محمد علي باشا والي مصر في ذلك الحين عصا الطاعة، واتخذ خلافه مع عبدالله باشا والي عكا حجة فرمى الى احتلال سوريا وأرسل جيشا بقيادة ابنه ابراهيم باشا واحتلت جنوده العريش وغزة (1831) وظل يتوغل في البلاد الى أن احتل عكا وامتلك الشام والتحق عقيلة بجيش ابراهيم باشا اسوة بوالده ووضع نفسه في خدمته… سكن عقيلة في شفاعمرو بعض الوقت ولا يزال البيت الذي يقال انه سكن فيه قائما الى هذا اليوم، بينما سكن أخوه صالح في قرية عبلين المجاورة ولا تزال هناك منطقة تسمى “منازل عقيلة” بالقرب من قرية بيت لحم الجليلية ، وكان موقع بير المكسور (ما بين الناصرة وشفاعمرو) حيث يسكن عرب الحجيرات اليوم يدعى فيما مضى “وعر عقيلة”… كل ما سمعناه عن هذا الرجل أنه استطاع أن يجمع حوله مجموعة من الرجال الأشداء يمتطون صهوات جيادهم ثم يغيرون في كل مرة على قرية من قرانا الصغيرة المنتشرة في المنطقة الواقعة ما بين المدن الكبرى الثلاث حيفا والناصرة وعكا، يفرضون عليها أتاوة (خاوة) ان أدوها صاغرين يسلمون من بطشه ويعيشون بخير وأمان والويل لمن يتجرأ أن يعصاه ويرفض أمره فيغزو القرية ويسلب خيراتها وينهب ماشيتها وحلالها ولا يبقي لهم على شيء… تحالف مع الأتراك حينا وتمرد عليهم حينا آخر ووقف مع المسيحيين العرب وناصر الفرنسيين والأقلية الألمانية التي كانت تسكن في الجوار في كل من ام العمد وبيت لحم الجليلية والتي كانت تسمى بالألمانية Waldheim))… وفي هذه الأثناء كان يتنقل بين شرقي الأردن ومصر… وعندما عاد من المنفى عن طريق دمشق كان يقضي الشتاء في بيسان ويعيش بقية أيام السنة في خيمة في بير المكسور وقد توفي في عام 1870 ودفن في قرية عبلين شمالي شفا عمرو… وعندما سأله أحد الأجانب لماذا لا يستقر في قطعة أرض خصبة بدل أن يعتاش على النهب والسلب فأجاب: “أتريدني أن أهين نفسي بزراعة الأرض كالفلاحين”!! وعندما طلب منه الأميركيون التوقيع على إيصال بالمال الذي تسلمه منهم رفض فعل ذلك قائلا: “يمكن كسر قضبان الحديد ولكن لا يمكن كسر كلمة الناس الشرفاء”… وكان بهذا يرمز الى ما تمثله القيم العربية في الشرق من أدب وكرم وحسن ضيافة وفخر وعزة نفس… ان ما يلي هو تاريخ شفوي لرجل قوي حكم الجليل مدة ثلاثين عاما، وهو خلاصة ما رواه بعض المتقدمين في السن، بعد مرور مئة عام على وفاته، وقد قام بإجراء هذه المقابلات الدكتور والتر زينر من جامعة “الباني” الحكومية في نيويورك ما بين عامي 1967- 1968 وقد أتيح لي أن أرافقه وأترجم له ما رواه هؤلاء الرواة، جمعها في أطروحته (باللغة الانكليزية) محاولا أن يكشف بعض النواحي من تاريخ هذه البلاد في تلك الفترة، وقد يكون بعضها غير دقيق نظرا لمرور الزمن ونظرا لكبر السن لدى هؤلاء الذين قابلهم وضعف الذاكرة وضعف السمع… أضعها بين يدي القارئ الكريم حفظا لها من الضياع وخدمة لأجيالنا القادمة وأنا أتساءل هل هم أولى منا بدراسة تاريخنا؟!… خلاصة ما جاء في هذه المقابلات: قال أحد الشيوخ من عرب الزبيدات في السبعين من عمره: “لقد جاء عقيلة بعدهم جميعا، أي بعد إبراهيم باشا وبعد الزيادنة (ضاهر العمر) وبعد الجزار وقد حكم عقيلة في هذه المنطقة… كان حاكما بدويا ومعه بعض العربان والخيل… كان لديه ما يقرب من الأربعين أو خمسين ولربما مئة خيّال وكان يقول لهم اذهبوا إلى هنا أو هناك واحضروا لي عشرين أو خمسين “مجيدي”، وكانوا يحضرونها له بالفعل وكانوا يدعون بأن فلانا قد سرق دون أن يكون لديهم شهود على ذلك وهكذا تحول الناس ضدهم (ضد عقيلة وأتباعه) وقد اشتكى الناس إلى الحكومة التركية وجاء الجيش التركي وطردهم من البلاد كلها ووضعهم في بيسان لمدة ثلاثة أشهر ، ومن بعدها طردهم شرقا إلى ما وراء نهر الأردن فذهبوا إلى عمان، ثم جاء الأكراد… لقد كانوا أسوأ من الآخرين فقد قتلوا هذا وسرقوا ذاك واشتكى الناس عليهم للأتراك وطردوهم… وروى أحد المعلمين القدامى من شفا عمرو (في التسعين من عمره) بأن عقيلة دافع عن البعثة الأثرية الفرنسية عندما هاجمها أهل طبريا المحليين وقد كافأته الحكومة الفرنسية باهدائه سيفا وبعض المال وأهداهم فرسا… وقد روى أحد شيوخ عرب الحجاجرة بأن الأتراك كانوا ذات يوم يسوقون أمامهم ثلاثة ألمان قرب “السمونة” وقد كانوا يرتدون الزي العربي وقد مر عقيلة بقربهم وهو راكب فرسه ورآهم فسأل الأتراك عما يفعلون فأجابوا أننا نريد طردهم من البلاد فسألهم ماذا فعلوا حتى تطردوهم فأجابوا: “هذه هي أوامر حكومتنا”… حينئذ حارب الأتراك وحرر الألمان من أيديهم… وقال أحد وجهاء المسيحيين من شفاعمرو (فوق السبعين من عمره) بأن عقيلة آغا أو عقيلة الحاسي ورجاله هم من بقايا جيش ابراهيم باشا ومن الواضح أن أصله من الحسا في الحجاز ولكن أتباعه الهنادي أو الهوارة كانوا من مصر انهم بدو أو شبه بدو وقد تركزوا (تجمعوا) حوالي شفاعمرو وعبلين والناصرة، ولا تزال توجد عائلات تنحدر من الهوارة في هذه الأماكن حتى يومنا هذا… ومن جملة ما رواه أيضا بأن السلطان أراد أن يستميله فمنحه مطحنة كردانة ولكنه رفض قائلا: “هل تريدني أن أكون “غبار طحين”!!… وروى شيخان درزيان من شفاعمرو (وكلاهما فوق السبعين) لقد كان عقيلة من قبيلة الهوارة وقد عاش في زمن جدهما وكان عقيلة شهما أما أخوه صالح فلم يكن كذلك… عاش عقيلة في شفاعمرو ولكن أخاه سكن في عبلين ولقد كانت بير المكسور والأرض المجاورة لها (حيث يسكن عرب الحجيرات اليوم) تعرف بـ “وعر عقيلة”… ومما روياه أيضا بأن (ألهوارة) قد هزموا الأكراد في معركتهم مع الهنادي بالقرب من مقام النبي شعيب في حطين فالتجأوا إلى المقام للاحتماء به وقد عرف زعيم ألهنادي بان هذا المكان مقدس وطلب من رجاله عدم اللحاق بأعدائهم إلى داخل المقام ولكنهم لم يستجيبوا لطلبه ودخلوا، ولما رأى نبي الله شعيب أن مقامه قد تدنس طلب المساعدة من السماء وسرعان ما غطت السماء غيوم كثيفة ولفت المكان ولم يتمكن الهنادي من رؤية الواحد الآخر فقتلوا بعضهم بعضا وهكذا قتل كل الذين دخلوا هذا المقام… وقد ذكر القس اسعد منصور (تاريخ الناصرة 1924) هذه المعركة بتفاصيلها والحوادث التي أدت إليها ومر أيضا على ذكر الضباب ومقام النبي شعيب، إذ حصلت المعركة في ساعات المساء…

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى