عزة الجراح تكتب “أنا اكره امى”

نعم  أنا أكره أمي فهي بخيلة جدا، إسمي غسان ، عمري عشر سنوات ، ولدي أسوأ أم في هذا العالم ، فهي لا تسمح لي بتناول الحلويات ، وتمنع عني المصروف للتأكد أنني لن أشتريها، و تضع في حقيبتي بدلا من ذلك خضراوات غبية وبعض الفواكه ، وكلما حدثتني نفسي بإلقائها في القمامة توسلت معدتي من شدة الجوع ، فآكلها على مضض وسط ضحكات زملائي ، وأنا ألعن أمي في سري ، تلك التي تمنع عني الشوكولاتة لضررها، هل هي ضارة إلى هذه الدرجة؟، لماذا يأكلها كل الأطفال ولا يحدث لهم شيء؟ بل على العكس، صديقي تامر يأكل الحلويات يوميا ، وهو يفوقني طولا وحجما، أما أنا فأقصر زملائي طولا ،وأكثرهم هزالا، هي تكذب إذن ،تحرمني ما أشتهي لتوفر المال، أنا متأكد من أنها تكرهني، وإلا لأقامت لي حفل ميلاد كأصدقائي، أو سمحت لي بالذهاب إلى حفل تامر، الذي كان قبل عدة أيام ، لكنها رفضت كالعادة وللسبب المعتاد ، “لا يوجد في هذه الحفلات سوى الحلويات المضرة والعصائر” ، كما أنها تمنعني من السباحة أو المشي حافي القدمين على رمال الشاطئ، وحجتها في ذلك تلوث المياه والرمل .
لقد كرهت حياتي خاصة بعد حديث تامر بعد المدرسة عن لذة كعكة الكريما بالأناناس التي اشترتها أمه من أفضل مخبز في المنطقة ،ورجوته قائلا:” أريد منك أن تحضر لي قطعة كبيرة من الكعكة”، “حقا؟”، قالها باستغراب،” وماذا لو عرفت أمك بذلك ؟ ” لن تعرف” ،قلت بحماس ، تامر كان محبا للمغامرة ، وافق أن يحضر لي الكعكة والعصير أيضا ، وقال أنني قد كبرت أخيرا، ولم أعد جبانا ، فتحمست أكثر وطلبت منه إحضارها فورا.وبعد ربع ساعة كنت بانتظاره هناك ، وأنا أذرع الساحة ذهابا وإيابا بتوتر شديد ، إلى أن أطل أخيرا وبيده العلبة التي تخبئ أغلى أمنياتي ، قال لاهثا: “هيا…كل بسرعة ، أما أنا فلم أكن مستعجلا أبدا، بل أردت إطالة اللحظة والاستمتاع بها ما أمكن ، تأملت الألوان الزاهية التي تزينها، وتنفست عبيرها ملئ صدري ، ثم أخذت القضمة الأولى ، شعرت باضطراب قوي في قلبي وبنشوة عارمة، وكأنني أركب قطار الموت الشهير في مدينة الألعاب ، نشوة الطيران ورعب الخوف من السقوط كلها اختلطت في قلبي الذي تسارعت دقاته بجنون، وانتبهت على صوت تامر يصيح :” العصير،كدنا ننساه”، وتناول من حقيبة ظهره زجاجة صغيرة بداخلها سائل وردي اللون زكي الرائحة ،قلت بفرح :” شراب التوت”،وأخذتها منه بيد مرتعشة ،ثم أتيت على ما فيها بلحظات، وبعد أن أنهيت وجبتي السرية، شعرت بدوار شديد، وبدأت بالتقيؤ، خفت كثيرا وصرخت بتامر:”ما ذا فعلت بي ، هل وضعت سما في الكعكة”، ثم أغمي علي.
استيقظت في مكان بارد، نظرت من حولي لأجد نفسي في سرير وسط غرفة صغيرة ،تملؤها أجهزة غريبة تصدر أصواتا مزعجة ، ولما أردت النزول من السرير وجدتني مكبلا بالعديد من الأنابيب والأسلاك، تملكني الخوف فصرخت ،فإذا بامرأة قدمت إلي مبتسمة وهي تقول بصوت هادئ :” الحمد لله على السلامة”. “من أنت ؟وما هذا المكان ؟،أريد أمي “،قلت باكيا ، “لا تخف ،كنت مريضا ،وأنا ممرضتك، هذه غرفة العناية المركزة ، سأنادي أمك حالا”،ثم غادرت مسرعة لتنادي أمي، التي دخلت مهرولة إلي وهي تحمد الله ، واحتضنتي فجأة ، توقعت أن تكون غاضبة مني لأنني عصيتها، اعتذرت منها وقلت لها أن الله عاقبني على ذلك ، فقد وضع غسان سما في الكعكة ، ولكنني فوجئت بها تعتذر هي مني ، قالت بأنني مصاب بالسكري منذ كان عمري عامين ، وهي أخفت الأمر عني كي لا أشعر بالنقص أمام زملائي ، وأنها كانت تحرمني الحلوى بسبب ذلك ، وعندما أكلت هذه الكمية الكبيرة من السكر دفعة واحدة، أصبت بحموضة في الدم، أليس هذا مضحكا ؟ ، كيف يصبح الدم حامضا من كثرة السكر ؟، ألا يفترض أن يصبح حلوا؟! ،كما أنها منعتني الاستمتاع على الشاطئ خوفا علي من أن تجرح قدمي فتلتهب ،وأصاب بمرض القدم السكري فيضطر الأطباء إلى بتر قدمي، قالت لي مبتسمة ” أنت حلو جدا في الأصل، لا تحتاج الى السكر ، أحب أمي وهي أفضل أم في العالم ، أمي لم تأكل الحلويات منذ إصابتي بالسكري ، تبقي الأرض نظيفة خوفا علي ، وخصصت لي حذاء للمنزل حماية لقدمي ، وواققيات للمرفقين والركبتين إذا خرجت للعب ، أمي رائعة ، تستيقظ كل ليلة لتقيس لي نسبة السكر وتعطيني دوائي، أمي حياة، لولا مشيئة الله ثم لولاها لما بقيت حيآ إلى اليوم.

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى