الوجه المشرق للرأى المرجوح  للدكتورمصطفي على قرمد مدرس اصول اللغة بجامعة الازهر

تنقلها لكم /هناء السيد
حملني على كتابة هذا المقال ما حدث في مجلسٍ، اعترض بعض مَنْ فيه على نشر بعض ما ورد من الآراء التراثية المرجوحة في الكتاب الجامعي، لأن ذلك يعد خطرا في تشكيل فكر الطلبة الجامعيين، ومما ينبغي ستره عن الطلاب في هذه المرحلة، وكعادتي لم أسلم في النقاش بمثل هذا الحَجْر، خاصة أن الطالب في هذه المرحلة هو مشروع معلم أو باحث، وكلاهما لا يعالج تصحيح فكره بستر رأي أو معلومة عنه، وإنما بعرضها للنقاش، وتنفيد ما اشتملت عليه بالأدلة والبراهين، وعلى الرغم من قناعتي بسلامة قصد ممن أراد سترها، وصحة توجهه في عدم صحتها، لم أقره على نتيجته، ثم قلت في نفسي إن المجتمع العلمي الذي قيلت فيه هذه المعلومة أو هذا الرأي، اتسع صدره ولم يضق برأي صاحبها وإن كان مرجوحا عندهم كما هو عندنا، ونقلوه في تراث الأمة جيلا بعد جيل، ليظل هذا التراث يشهد بمناخ علمي صحي ضاق أُفُقُنا عن اكتشاف وجه التحضر فيه.
إن تقييد الفكر هو ضد الإبداع والرقي والحضارة، هو ضد التنوع والاختلاف الكائن ما دام وجود الإنسان على هذه البسيطة، لأن الأصل هو سلامة الصدر ونبل المقصد، وعلى هذا ينبغي أن يحمل خطأ العالم قبل صوابه، ومرجوحه قبل راجحه، ولا أدل على ذلك من قول الشافعي في حق نفسه:«إن صح الحديث فهو مذهبي، أو فاضربوا بمذهبي عرض الحائط».
إن التراث بما فيه من أراء متعددة، مستحسنة، أو صادمة، تمثل حلقات متنوعة ومراحل مختلفة في الفكر الإنساني تعطينا مساحات واسعة في التحليل والنقد، والقبول والرفض، لا يمكن أن تكون إلا بوجود النصوص الدالة على هذا التنوع والاختلاف، وهي تمثل طاقة النور التي لا يتسع لها أصحاب منهج الستر والحذف والتقبيح، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض، وما أحسن قول المخالف: «مناظرة مثلك في الدين فرض، والاستماع منك أدب، ومذاكرتك تلقيح للعقل».
إن إلحاق العيب بالتراث بحجة أنه يشتمل على آراء صادمة، ومتشددة، وخطيرة، هو ذات العيب الذي يلحق صاحب هذه النظرة المتعسفة الجائرة، وهو حكم منه على نفسه بالتعسف قبل أن يكون حكما على تراث الأمة بذلك، وأنه لا يقبل إلا صوته ولا يرضى إلا برأيه، ولو صح زعمه لقويت إرادته بتصحيح ما عابه بالحجة والدليل لا بالستر والحذف والتنكيل.
أيها القارئ الواعي إن التراث كان أصح مذهبا من هؤلاء المتعسفين، فهو الذي نقل قول القائل: «لا تدفعْ الباطلَ بالغَلَبَة إذا أمكنك أنْ تَدْفَعَه بالحجَّة».
وهو التراث الذي نقل قول ابن عباس -رضي الله عنه: «عجبًا لمن يطلب أمرًا بالغلبة، وهو يقدر عليه بالحجة، فالحجة دين تُعْقَد به الطاعة، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة».
وقولي هذا لا يعني نشر الآراء الشاذة أو الدعوى إلى رواجها، فهذا من الخطأ بمنزلة تحسين القبيح، إنما أردت الانتصاف والفخر بالمسطور في الكتب والمصنفات، وعرضه ونقده دون مجاوزة أو تهوين، وهو حق من سلف من رجالات الأمة ممن عرض فكره على الناس، ثم بعد ذلك تحكمه سنة الله الغالبة ممثلة في قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾(الرعد: 17).

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى