قصة أم أصرت علي صناعة الحياة وهى تجود بأنفاسها الأخيرة

كتبت شيماء نعمان
قصة أم اصرت على صناعة الحياة وهى تجود بانفاسها الأخيرة انها الدكتورة / إبتسام أحمد إبراهيم الحيني ابنة قرية إبوان إحدي قري صعيد مصر يسرد الإبن أحمد زيدان حكاية والدته قائلا تزوجت والدي وهي في السادسة عشرة من عمرها ، فكان حظها من التعليم حصولها علي شهادة إتمام الدراسة الإعدادية ، ولم تستطع إستكمال دراستها لرفض والدي ، وظلت تنتقل معه من قرية إلي قرية ومن مدينة إلي مدينة بسبب ظروف عمله حتي استقر بها المقام ببلدته بمدينة طنطا ، وكانت في ذلك الوقت قد رزقت منه بأربعة من الأولاد عندما علمت بطريق المصادفة أن والدي تزوج بأخري زواجاً عرفياً.
كان تجرع الموت أهون عليها من ذلك. كيف تم ذلك ؟ ولماذا ؟ لابد أن تترك البيت وتعود إلي ذويها لاسيما بعد أن أصر والدي علي أن تعيش زوجته الأخري معنا بشقتنا. كان القرار صعباً علي أمي أتتركنا كما يقولون لزوجة الأب ؟ وكيف يكون مصيرنا ؟ وأخيراً كان قرارها الإستمرار بشروط أبي ولكنها طلبت أن تستكمل دراستها فالتحقت بمعهد اللاسلكي وكانت مدة الدراسة سنتان قطعتها أمي بين الدراسة ورعاية زوجها وأولادها وبيتها وكانت النتيجة النجاح والحصول علي المركز الأول ونشرت جريدة الجمهورية آن ذاك تحت عنوان (( أم الأربعة تحصل علي المركز الأول في معهد اللاسلكي)).
والتحقت أمي (الدكتورة ابتسام) بإحدي الشركات الخاصة بمدينة طنطا للعمل بدبلوم اللاسلكي فكانت تقضي أوقات العمل بالنهار وترعي شئون بيتها وأولادها بالليل. ولم تقنع (الدكتورة ابتسام) بمعهد اللاسلكي ولكنها التحقت بإحدي المدارس الثانوية – منازل- وقطعت الدراسة الثانوية بنجاح وبمجموع أهَّلها للإلتحاق بكلية الآداب – هي بكلية الآداب وأولادها الأربعة بالمراحل الجامعية المختلفة.
وبدأ أبي يضيق بوالدتي وبنجاحها وكان طبيعياً أن تزداد المشاكل بينهما ووصل الأمر به للإطاحة بكتبها فتنكب علي الأرض تلملم أوراقها ، ومرت السنون وحصلت علي ليسانس الآداب قسم اللغة العربية بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف, وبدأت تستعد لتولي وظيفة معيد بكلية الآداب ولكن اللوائح الجامعية حالت دون تحقيق هذا الأمل الغالي بزعم أن سنها أكبر من السن المسموح به وطلبت والدتي استكمال الدراسات العليا بيد أن أبي رفض بشدة وكان عليها أن تلتحق بالعمل بوزارة التربية والتعليم لكي توفر مصروفات تلك الدراسة وكان لأبي شرطاً آخر لكي يوافق علي دراستها العليا أنه اذا استشعر أي تقصير تجاه الواجبات المنزلية فسيكون قراره بتوقفها عن الدراسة ووافقت بذلك الشرط وسرعان ما حصلت علي الدبلوم العام وتلته بالدبلوم الخاص بتقدير جيد جداً مما أهَّلها للتقدم للحصول علي درجة الماجستير في (( الأدب الجاهلي )) تحت إشراف أ.د محمد مصطفي هدارة وأنفقت الساعات الطوال عاكفة علي البحث بين قاعات الدرس وبين دفات الكتب لا تفرط لحظة في القيام بواجباتها الأسرية ، وكان عليها أن تتصرف بالبيع في بعض ممتلكاتها لتوفير نفقات الدراسة والإنتقال بين مكتبات طنطا والقاهرة وكنت رفيقها في هذا الدرب.
وتحدد موعد مناقشة رسالة الماجستير وقبل حلول الموعد بأسبوعين يقضي أبي نحبه وتحزن أمي وتتقدم بطلب تأجيل جلسة المناقشة فيتم تأجيلها شهراً وقبل انصرام الشهر يتوفي جدي فيتم تأجيل المناقشة لمدة ثلاثة شهور ، وقبل أن تمر الشهور الثلاثة بيومين توافي جدتي منيتها لدينا بمنزلنا بمدينة طنطا ويصر الأهل بالصعيد علي أن نحضرها إلي بلدتها لتقبر هناك وتصر والدتي علي صلة رحمها حتي لو كلفها ذلك أن تأتي بسيارة خاصة وتضع والدتها المتوفاة بجانبها كأنها مازالت علي قيد الحياة ولمدة ثمانية ساعات من طنطا حتي قريتها بمحافظة المنيا تحتضن أمها وتتعالي علي آلام فقد الأم من أجل صلة الرحم ، وتجلس لتتلقي العزاء كعادات أهل الريف باعتبارها ابنتها الوحيدة وتعود لتناقش رسالة الماجستير في اليوم التالي مباشرة ترتدي ملابس الحداد تتلقي أسئلة الأساتذة ومحاوراتهم … كنت أعلم أن كبد أمي يحترق لفراق الزوج والأم والأب ، ولكنها كانت تجيب بثبات ورباطة جأش تعلو وجهها ابتسامة لا تفارقها أبداً وتنتزع الماجستير بتقدير إمتياز مع مرتبة الشرف ، وتترك أمي العمل كمدرسة بإحدي المدارس الثانوية التجارية لتلتحق عن طريق مسابقة للعمل كمدرس مساعد بقسم اللغة العربية بكلية الدراسات الإسلامية واللغة العربية بجامعة القاهرة – فرع الفيوم ، ويواصل الأبناء الأربعة نجاحهم كل منهم في كليته ، وتتقدم هي لتسجيل رسالة الدكتوراه وتنكب علي أوراقها تبحث وتدقق وتنقب وترعي الأولاد بدون أدني تقصير وتحاضر بالجامعة ولا يخلو الأمر من مجاملة هنا أو هناك أو حل مشكلة
هذا الإبن أو ذاك لا يمنعها ذلك من صلة رحمها في شقيقها الوحيد .
وتشعر الدكتورة إبتسام بأعراض غريبة فتذهب إلي الطبيب وتعلم بعد الفحوص الطبية أن مرض السرطان الخبيث قد داهمها ونشب أظافره في جسدها الرقيق ، وتستمر في مواصلة البحث الذي سوف تتقدم به لنيل درجة الدكتوراه وأثناء ذلك يقرر الأطباء إجراء عملية جراحية استئصال كامل الثدي لوالدتي وتبدأ بعد ذلك مرحلة أخري بأن تتلقي العلاج الكيماوي تارة والعلاج الإشعاعي تارة أخري ويبدأ الهزال يغزو جسدها الضعيف ، ولكن ابتسامتها والله ما كانت تغيب.
وتتم المناقشة في موعدها المحدد وتجتمع اللجنة المشرفة وتمنح والدتي درجة الدكتوراه بتقدير إمتياز … لتصبح مدرساً بكلية الدراسات الإسلامية واللغة العربية – جامعة القاهرة – فرع الفيوم وكانت تعلم منذ أن هاجمها السرطان أنه لن يجعلها تستمتع بثمرة هذا الجهد الكبير بحكم قراءاتها من كتب طبية متخصصة في هذا المرض ، وكأني بها تتمثل قول المصطفي (e) : ( اذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليزرعها ) إذن فلتزرع هي فسيلتها ولتؤدي دورها ولتكن مشيئة الله فالله غالب علي أمره … وهكذا قررت الإسراع بالذهاب إلي بيت الله الحرام لأداء العمرة طلباً لرضا الله وللعلاج والشفاء ممن يملك الشفاء – ولعلها كانت تدرك أن العمر لن يمهلها فرصة للقيام بتلك الرحلة لذلك كانت تتعجل القيام بها ، وتحاملت علي نفسها ومقدرتها الصحية وتحملت عناء هذه الرحلة الطويلة في شهر رمضان 1417 هـ ، وبعد عودتها تشتد الآلام وعلي سرير المرض تدعوا ابنتها وخطيبها الذي كان قد تقدم لها قبل مرضها الأخير بأن يحضرا الشبكة إليها بالمستشفي لتبارك هذه الخطبة ولا تحرمها من فرحتها معها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة … ثم تدعو أبنائها وأصدقائهم تطلب من كل منهم أن يقرأ جزء من القرآن الكريم لتراهم وهم يختمون كتاب الله ويهبون ثوابه لها ، وكعادتها وفي هدوء تغمض عينيها وعلي شفتيها ابتسامتها التي لم تكن تفارقها لتلقي الله سبحانه وتعالي في ليلة القدر أو هكذا ظننا في ليلة الخامس والعشرين من رمضان سنة 1418 هـ … كانت أشبه بالعروس ليلة زفافها ونحن نسكنها القبر ونواريها الثري ، وكانت المساجد القريبة تدوي بقراءة القرآن (قرآن صلاة التراويح) وكأنها مظاهرة حب شارك أهل السماء فيها أهل الأرض ليسكن جسد الدكتورة ابتسام قبرها وتصعد روحها الطاهرة إلي بارئها لتستقر في عِليين في مقعد صدق عند مليك مقتدر إن شاءالله

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى