أخر الأخبار

الاستاذ مصطفى بكرى يكتب الطريق الى ليمان تورا

بقلم – مصطفى بكرى..
فى الذكرى التاسعة والثلاثين لأحداث سبتـمبر 1981..
بعد 39 عامًا على أحداث الخامس من سبتمبر من العام 1981، تقفز إلى الذهن، حكايات، عن وقائع جرت، وصدامات وقعت، فى واحدة من أشهر حملات الاعتقال التى شهدتها مصر لرموز الوطن، والتى لم تتوقف آثارها إلا حين بدأ الرئيس الجديد آنذاك «حسنى مبارك» فى تصفية أوضاع 1536 من الرموز الذين طالتهم حملات فجر الخامس من سبتمبر.

تاريخ من الذكريات، تنفسناه واقعًا فى تلك الأيام الغابرة التى مضت، تسعة وثلاثون عامًا بالتمام والكمال متذ حدوثها، فكانت نقطة فارقة فى تاريخ الوطن، تاركة بصماتها، الخاصة والعامة على كل مجالات الحياة فى البلاد.

فى صيف العام ١٩٨١، كانت مصر على فوهة بركان، جراء الأحداث الساخنة، والمتصاعدة، والتى راحت تضرب البلاد، من شمالها إلى جنوبها، فى وقت كانت فيه المعارضة السياسية لنظام الرئيس السادات تتصاعد بشكل متسارع، وامتدت، من مظاهرات لطلاب الجامعات المصرية، إلى تحركات واسعة للأحزاب، والقوى السياسية، والتى راحت تعقد المؤتمرات، والندوات، وتنظم المسيرات، المنددة بسياسات الرئيس، وأركان حكمه.

فى هذا الوقت راحت سحب داكنة تتكاثر فى سماء العلاقة، بين النظام الحاكم والنقابات المهنية، وفى المقدمة منها نقابتى المحامين، والصحفيين، وانعكس التوتر على الوضع داخل مجلس الشعب، حيث اشتد ساعد المعارضة، على قلة نوابها فى المجلس، وراحت تهاجم الحكومة والنظام بضراوة.

حينذاك، وجد السادات نفسه فى حالة من الحصار الشعبى الخانق، وشعر أن الموقف يكاد يفلت من بين يديه، وهو ماانعكس على ردود فعله المتوترة، والمرتبكة، والتى راح يعبر عنها فى تصريحات غير مسبوقة، وتهديدات غير متوقعة، بل وتصاعدت ردود فعله، لدرجة اصداره قرارا باعتقال ١٥٣٦ من قيادات، ورموز المجتمع، شملت كافة طوائف الشعب المصري، وقواه الحية، مابين صحفيين، وسياسيين، وحزبيين، ومفكرين، ورجال دين، وغير ذلك من القوى الوطنية، التى وحدتها محنة الاعتقالات الواسعة التى شهدتها البلاد.

كانت مصر فى الثانى من سبتمبر من العام١٩٨١ على موعد قدرى مع تلك الأحداث التى راحت تتصاعد بقوة خلال أيام وجيزة، حتى بلغت حدا غير مسبوق، حين قام الضابط خالد الاسلامبولي، ورفاقه من أعضاء الجماعة الاسلامية وتنظيم الجهاد باغتيال الرئيس انور السادات فى العرض العسكرى يوم السادس من اكتوبر من العام ١٩٨١، وذلك بعد أربعة أسابيع فقط من قرارات الاعتقال التى اتخذها بحق رموز المجتمع المصري، والتى أثارت حالة من الغضب واسع النطاق فى كافة أنحاء مصر.

لقد كنت على رأس من شملتهم قرارات التحفظ فى هذا الوقت.. حيث داهمت قوة مدججة بالسلاح من مباحث أمن الدولة، والأمن العام بقنا منزلنا الكائن ببلدة «المعنا» ليلة ٢من سبتمبر من العام ١٩٨١إلا أنها لم تعثر علي”، حيث كنت متواجدا بالقاهرة، وكان معى شقيقاي”محمود وأحمد”واللذان ماأن علما بما جرى من هجوم أمنى كاسح على منزلنا بالقرية، حتى سارعا بالعودة إلى البلدة فى الخامس من سبتمبر ، لقد فوجئت بنشر اسمى فى الصحف ضمن المطلوب القبض عليهم وكان ترتيبى هو رقم 176.
ليلة عاصفة
فى مساء نفس اليوم”الجمعة-٥سبتمبر”كان والدى وأشقائئ، وعدد من أفراد أسرتي، وبعض الأصدقاء، يجلسون فى هذا الوقت أمام منزل العائلة، وبينما هم يتحدثون فيما تشهده مصر من أحداث فى تلك الفترة، وصلت قوة كبرى من رجال الأمن ومباحث أمن الدولة، مدججين بالأسلحة، تهاجمهم بشكل مباغت، بعد أن جاءوا من منطقة الزراعات المظلمة، القريبة من المنزل، وأصواتهم تخترق سماء قريتنا الهادئة..كان رجال الأمن يصرخون بأصوات مرعبة «إثبت مكانك» وراح الرائد أحمد شعلان الضابط بمباحث أمن الدولة يصدر توجيهاته لعناصر من القوات المشاركة فى الحملة الأمنية، مطالبا بتفتيش المنزل بطابقيه، «العلوي، والسفلي» والبحث عن الهدف المطلوب.. وكنت أنا بطبيعة الحال الهدف المطلوب، إلا أنهم لم يعثروا على شيء، فاتجه المقدم محمد يوسف من قوة مباحث أمن الدولة بقنا، ليأمر القوة المشاركة بالقبض على شقيقاى محمود وأحمد، وكذلك والدى المسن، وأحد الجيران ممن تواجدوا بصحبة عائلتى فى هذا الوقت، وهو حسن أبوالمجد.

كان الرائد أحمد شعلان، والذى تم اغتياله فى منتصف التسعينيات على أيدى بعض عناصر الإرهاب فى القاهرة، يؤدى واجبه بحرص، غير أن الرائد محمد يوسف، كان على النقيض من ذلك تماما، حيث اشتبك مع شقيقى محمود، والذى رفض اصطحاب الأمن لوالدى المسن، وقال للضابط محمد يوسف «اضربنى بالرصاص، ولكن لن أسمح لك باعتقال والدى وبهدلته»، كما اشتبكت والدتى مع الضباط، وراحت تقول لهم «سيبوا ولادى ياظلمة، همه عملوا إيه، وايه ذنبهم؟!».. كانت أمى، من النوع العنيد والمثابر، ولاتهاب غير الله سبحانه، وكانت فى كل مرة يأتى فيها رجال الأمن لاعتقالي، تتصدى لهم، وتواجههم بكل قوة، حتى أنهم باتوا يخافون التعامل معها من شدة بأسها فى مواجهتهم.
ورغم كل السبل التى استخدمها الضباط، والحملة الأمنية المكبرة لارغام شقيقى محمود على التنازل عن رفضه اصطحاب والدى الراحل معهم الى مقر مباحث أمن الدولة بقنا، إلا أنه رفض الانصياع لمطلبهم، وقال لهم بلغة حاسمة”اقتلوني، ولكن لن أسمح لكم باصطحابه”وهنا تدخل الرائد أحمد شعلان، وقال للرائد محمد يوسف”خلاص سيبه، احنا هناخد محمود وأحمد وحسن ابوالمجد ونمشى، وهو ماصدقه أخى محمود، الذى تصور أن الضابط أدرك خطأ الحملة الأمنية فى محاولة اصطحاب والدي، إلا أنه سرعان ماتبين أن الأمر لم يكن يعدو أكثر من مناورة رخيصة، حيث اصطحبوا شقيقاى وصديقنا فى احدى سيارات الشرطة، بينما اصطحبوا والدى فى سيارة أخرى، وهو ما اكتشفه شقيقى محمود بعد وصوله لمبنى مباحث أمن الدولة، والكائن فى قلب مدينة قنا، مما دفعه للغضب من جديد فى وجه اللواء جمال المصرى الذى كان مديرا لمباحث أمن الدولة فى ذلك الوقت، بسبب احضار والدنا المسن الى مقر الجهاز، ولكن اللواء جمال المصرى طلب من شقيقى محمود الهدوء، واعدا إياه باطلاق سراح والدنا فى حال تجاوبه معهم وابلاغهم عن مكان اختفائي.

أنكر شقيقى محمود معرفته بمكاني، ومخبأى بالقاهرة، وهنا راح اللواء جمال المصرى يضغط عليه، بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى، حيث قال له”احنا مستعدين نديك الفلوس اللى عاوزها علشان تسافر وتقنع شقيقك محمد يسلم نفسه”.. نطق مدير أمن الدولة إسم ”محمد” لأنه الاسم الذى كنت معروفا به فى هذا الوقت، قبل أن آخذ اسم والدى ”مصطفى بكري”مع بداية عملى بالصحافة فى بداية الثمانينيات..هنا، انفعل اللواء جمال المصرى بشدة، وراح يرفع صوته ليدوى فى كل أنحاء مبنى مباحث أمن الدولة، وراح يقول فى مواجهة شقيقى ”إنت فاكر اننا مش هنعرف نجيب أخوك.. داحنا هنجيبه من تحت الأرض، ياابنى دى الاعتقالات شملت محمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين وعبدالعظيم أبوالعطا وغيرهم من كبار الشخصيات.. وأخوك لازم يتقبض عليه، يعنى لازم يتقبض عليه”.

عندما فشل اللواء جمال المصري، فى ترويض شقيقي، أوتهديده، اضطر الرائد أحمد شعلان للتدخل، فاصطحب معه شقيقى محمود الى مكتبه، محاولا اقناعه بمساعدتهم على تسليم نفسى لهم، ومتعهدا بتوفير معاملة كريمة لى لوفعلت ذلك، إلا أن شقيقى رد عليه غاضبا”كيف ستوفرون له معاملة كريمة، وأنتم تسيئون معاملتنا، وتتعمدون احضار والدنا المسن الى هنا، ثم تعتدون بالضرب على اثنين من أبناء بلدتي، بعد أن جئتما بهما بلاذنب ارتكباه، سوى أنهما من قرية محمد مصطفى بكري، وهما-حسين أحمد همام، وحسن محمود جادالله؟!”.
مناورة أمنة.

كان كل مافعله الرائد أحمد شعلان بمثابة مناورة جديدة، فقد أدرك أن شقيقى محمود على علم يقينى بمكان اختبائي، وأنه لن يبوح عن هذا المكان مهما فعلوا، لذا راح الضابط يبدل طريقة تعامله معه، سعيا وراء الوصول لمكاني، ويبدو أنه قرر فرض مراقبة مشددة على أشقائي، وأفراد أسرتي، حتى يتمكن من الوصول الى مكاني، فأصدر تعليماته بصرف والدى، وشقيقاي، وكل من جاءوا بهم من بلدتى من مبنى مباحث أمن الدولة، وذلك عند نحو الساعة الواحدة تقريبا من صباح يوم السبت الموافق ٦سبتمبر ١٩٨١، بعد احتجازهم بمقر مكتب أمن الدولة، استمر لعدة ساعات.

ومابين السادس من سبتمبر وحتى السادس من أكتوبر من العام١٩٨١، ظللت مختفيا عن الأنظار، متنقلا بين مساكن عدد من الأقارب والأصدقاء بالقاهرة والجيزة، ومع ظهر هذا اليوم، كانت مصر على موعد مع الحدث الأكبر، وهو اغتيال الرئيس أنور السادات فى العرض العسكرى الذى تم فى ذكرى انتصارات السادس من اكتوبر على يد مجموعة إرهابية مسلحة، بقيادة الملازم أول خالد الاسلامبولي، وهنا بدأت قوات الأمن مرحلة جديدة فى ملاحقة الهاربين، من المطلوب القبض عليهم، وكان القبض على شخصى فى هذا الوقت مسألة وقت لا أكثر، فأنا لن أستطيع الهروب كثيرا، والأمن لن يكف عن البحث عني.

كان كل مايشغلنى فى هذا الوقت هو حزن والدتى ، فأنا أعرف حجم الألم الذى تعانية فى ظل تعرضنا لمثل هذه المشاكل، فمابالك، وهى ترى رجال الأمن يلاحقوننى فى كل وقت، خاصة وأن رجال الأمن كثفوا من ترددهم على قريتنا، وحصارها من كل اتجاه، والتعدى على بعض أبناء البلدة، ومضايقتهم، وتفتيشهم بطريقة مستفزة، واغلاق المقاهى عنوة، ووضع مخبرين عند مدخل الكوبرى المؤدى الى القرية للتضييق على قاطنيها، ولعل ماحدث ليلة الثانى عشر و الثالث عشر من أكتوبر من العام ١٩٨١، كان مثيرا، وعجيبا فى الآن ذاته.

كان شقيقى محمود يستمع إلى الاذاعات الموجهة الى مصر فى تلك الفترة، وخاصة اذاعة «مصر العروبة» التى كانت تبث ارسالها من العاصمة العراقية «بغداد» والتى كانت تتابع مايجرى فى مصر أولا بأول، وخاصة منذ مصرع السادات فى العرض العسكري، وفى تلك الليلة أذاعت حديثا مع الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر ١٩٧٣، حيث توقع قرب سقوط نظام الحكم، ودعا الى الثورة ضد من وصفهم ببقايا النظام، وعند الساعة الواحدة من صباح هذا اليوم «١٣أكتوبر» توفيت جارة لنا فى نفس شارع منزلنا بالقرية، تدعي «باتعة» أثناء تعثرها فى الولادة، فخرج شقيقى محمود ليقف مع أهلها وفقا لعاداتنا وتقاليدنا، وجاء تجمع رجال المنطقة عند بداية الشارع المتقاطع مع الشارع الكائن فيه منزلنا، وهو مايسمح بمشاهدة مايحدث أمام وعند المنزل من مسافة تتجاوز المائة وخمسين مترا.

كانت الفترة التى غادر فيها شقيقى محمود المنزل، وحتى بلوغه المكان، ووقوفه على رأس الشارع، لاتتجاوز العشر دقائق، وبينما كانت صرخات أهل المتوفاة تدوى فى هذا الوقت المتأخر من الليل، حتى فوجىء شقيقى وهو يدير وجهه صوب المنزل بقوة مدججة بالسلاح تقتحم المنزل باحثة عنه، للقبض عليه، بتهمة ممارسة نشاط سياسى معاد لنظام الحكم..لقد جاءوا هذه المرة بشراسة غير مسبوقة، حيث حطموا الأبواب، والأثاث والتليفزيون الوحيد فى المنزل، وغير ذلك من حاجات المنزل، وتعرضوا لباقى أشقائي، وأثاروا فزع شقيقتاى اللاتى كن صغارا فى السن، وحولوا المنطقة بكاملها الى ثكنة عسكرية، راحوا يفتشون بيوت الأقارب، ويتجولون فى شوارع البلدة، خاصة بعد لجوء شقيقى محمود الى بيوت بعض الاقارب، هربا من ملاحقتهم، بعد أن عرف أنه المقصود من الهجوم على منزلنا.

لقد أدرك شقيقى أن الحملة البربرية التى استهدفت منزلنا، وروعت أهالى بلدتنا، لن تتوقف عند هذا الحد، بل وضع فى حسبانه أن الجهات الأمنية، وبعد أن فشلت فى الوصول الىّ، قد تندفع باتجاه توريطه فى أى من أحداث العنف التى كانت تشهدها مصر فى فترة مابعد اغتيال السادات، لذا فكر فى التصرف بشكل عاجل لاحتواء أية تطورات قد تحدث، ولايحمد عقباها.

كان الهم الأكبر الذى يشغلنا جميعا هو تأثير الأحداث على والدتنا، فهى الوحيدة التى تعيش فترة من العذاب الكامل، وتمتنع عن تناول طعامها، كلما حلت بنا أزمة أومشكلة، ومن هنا انصب تفكير شقيقى محمود على أن يغادر من قنا الى القاهرة، لتحذيرى من خطورة ماحدث، وتوقعاته لما قد يحدث مستقبلا، خاصة أن وسائل الاتصال كانت محدودة للغاية قبل عصر الموبايل، وكذلك ترتيب زيارة لوالدتى للقاهرة، بحيث تطمئن علي، بعد أن توقع أنه سوف يتم القبض على فى أى وقت، ولذا رتب رحلة سفر لها، ومعها شقيقى عبدالحميد، ورسم لهما خطة الوصول الى محطة سكك حديد الجيزة، وكيفية التحرك، ومن سيكون فى انتظارهم بالجيزة، وغير ذلك من الأمور لتأمين وصولهم، دون أن يتتبعهم أحد.
رحلة هروب مثيرة.

ورغم الحرص الكامل على ترتيب الأمور، لكن ماجرى كان غريبا، وعجيبا، ومثيرا، لقد استطاع شقيقى محمود الوصول الى مسكنى فى المعادى بعد رحلة من التخفي، سلكها من لحظة خروجه من بيت المرحوم خالى سعد سيد، وحتى وصوله محطة سكك حديد قنا عصر يوم الرابع عشر من اكتوبر من العام ١٩٨١، ثم وصوله إلى قطار الجيزة عند الساعة السادسة من صباح يوم ١٥ أكتوبر١٩٨١.
مضى نهار الخامس عشر من اكتوبر، وفى صباح اليوم التالى ١٦ أكتوبر، وصلت والدتى قادمة من البلدة، بصحبة شقيقى عبدالحميد، وابن عمى أحمد، الذى كان فى استقبالهما على محطة القطار، وطيلة الساعات التى تلت وصولها لم تتوقف عن البكاء، وكأنها كانت تدرك، بغريزة الأم، مايخبئه لها القدر بعد ساعات محدودة من وصولها.

عند الساعة الرابعة عصرا، كنا نجلس فى غرفة الاستقبال بالشقة التى نقيم بها بشارع أحمد زكى بالمعادي، ومعنا إبن عمنا الراحل سعيد.. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، دق جرس الباب، فتقدم أحد المتواجدين معنا لفتحه، وماهى الا لحظات، حتى فوجئنا بالمسدسات، وفوهات المدافع الرشاشة، مصوبة إلى وجوهنا.. بينما راح أحد الضباط من قادة القوة يسألنا”مين فيكم محمد؟..ومين فيكم محمود؟”..وقبل أن ننطق بكلمة، أشار مخبر المباحث، من قوة أمن الدولة فى قنا «الصول سيد» والذى يعرفنا جيدا، ليقول للضابط «هو ده محمد..وهو ده محمود».
بطريقة خاطفة، فوجئنا بالضابط، قائد المجموعة الأمنية، التى ألقت القبض علينا، يضع الكلابشات الحديدية فى أيدينا، ومعنا إبن عمنا الراحل سعيد.. فى هذه اللحظات تعلقت عيوننا بوالدتنا ونحن نغادر الشقة، كانت عيونها الباكية تذرف الدموع علينا، من خلف باب الغرفة الداخلية، حيث لم تستطع النطق ولوبكلمة واحدة، وكان مشهدها فى تلك اللحظات هو من أصعب ماوقعت عليه عيوننا، وظل مرافقا لنا طيلة فترة السجن .
فور خروجنا من باب الشقة، هابطين من الطابق الخامس بالعمارة إلى الشارع، شهدنا عجب العجاب، حيث تم احتلال العمارة بكافة طوابقها، وحتى السطوح بقوات مدججة بالأسلحة الآلية، وامتدت الكثافات الأمنية الى الشوارع المحيطة.. انتشر الجنود والضباط الذين كانوا يحملون الرشاشات فى كل مكان.. قيادات كبرى من رجال الأمن يمسكون بأجهزة اللاسلكي، ويصدرون التعليمات، سيارات للشرطة إحتلت الشوارع بمحيط المنطقة برمتها..الآلاف من المواطنين احتشدوا على مرمى البصر بشارع أحمد زكي، لقد تصورنا للوهلة الأولى أننا لسنا المقصودين، لولا أن الكلابشات كانت بأيدينا، لأن ماحدث، وماجرى، من حشود أمنية، وأسلحة، يصعب استخدامها مع مواطنين مسالمين، لايملكون سوى أقلامهم، وحناجرهم، وكلمتهم الحرة.

فى هذا الوقت رحنا نهتف أنا وشقيقى محمود”تحيا مصر..كلنا فداؤك يامصر”.. كانت الحشود تتابعنا فى ذهول ونحن نتقدم بثبات نحو سيارة الشرطة التى راحت تنطلق بنا إلى قسم شرطة المعادى أولا، بعد أن فكوا أغلال ابن عمنا سعيد، وتركوه، لأنه لم يكن مطلوبا القبض عليه.
الطريق إلى طرة.

ومن قسم شرطة المعادى، انطلقت بنا سيارة الشرطة إلى مبنى مباحث أمن الدولة بلاظوغلي، حيث تم ابلاغ الجهات المختصة أننا أصبحنا فى قبضة الأمن، وبعد تحقيقات سريعة انطلقت بنا سيارة الشرطة، تصحبنا حراسة مشددة، عبر طريق الأوتستراد، إلى منطقة السجون بطرة.
عند نحو السادسة من مساء هذا اليوم السادس عشر من أكتوبر، وبعد عشرة أيام فقط من اغتيال الرئيس أنور السادات، توقفت بنا السيارة عند منطقة السجون بطرة، حيث هبط قائد المجموعة الأمنية المرافق لنا، ودخل الى السجن، بينما كنا ننتظر بقلق خارج بوابة السجن، خوفا من أن تسعى سلطات السجن للتفرقة بيننا فى الحبس، خاصة وأن قرار اعتقالى صدر فى الثانى من سيتمبر، ضمن الـ ١٥٣٦ شخصية التى تم التحفظ عليها، أما شقيقى محمود فقد صدر قرار اعتقاله فى الثالث عشر من اكتوبر ١٩٨١، أى بعد سبعة أيام من مقتل الرئيس أنور السادات.
كنا ننتظر بفارغ الصبر، لنعرف كيف سيتم توزيعنا، لم نكن نعبأ، لابسجن، ولاسجان، كان همنا الأكبر ألايفرقوا بيننا، حتى نستطيع الاطمئنان على بعضنا البعض.. وعندما قال لى الضابط إن مكانك هو سجن الملحق مع هيكل وسراج الدين رفضت ذلك وقلت: لن أقبل إلا أن يكون معى أخى، وبعد الاتصالات التى أجراها تم الاتفاق على ايداعنا بسجن ”ليمان طرة”.. وهنا راحت سيارة الترحيلات تشق طريقها باتجاه ليمان طرة، فيما كانت آخر أشعة الشمس، تتسلل، منسحبة من الأفق الفسيح، لتحل محلها سحب داكنة، تخيم على هذا المكان الموحش فى منطقة سجون طرة.

وحين هبطنا من سيارة الترحيلات أمام بوابة سجن ليمان طرة، تقدم نحونا”سيد”مخبر مباحث أمن الدولة بقنا، وبعد أن فرغ من مهمته بتسليمنا لادارة الليمان مع ضابط القوة المرافقة، قال لنا”سوف أبلغ خالكم “سعد “بخبر اعتقالكما، ومكان سجنكما”..نظرنا إليه، دون أن نرد عليه بكلمة واحدة،

حين فتح الليمان بوابته الضخمة، وبأصواتها المزعجة، تم دفعنا إلى داخل الليمان، حيث سجلوا أسماءنا فى السجلات المخصصه للنزلاء، ثم طلبوا إيداع مالدينا من أموال فى “أمانات السجن”.. وماهى إلا لحظات، حتى فوجئنا بالعميد “محمد صفوت جمال الدين”مأمور الليمان، يوجه إلينا ألفاظا نابية، ويسبنا بأقذع الألفاظ، وهو يقول”عاملين فيها زعما ياولاد الـ…….”، ”هو انتوا فاكرين أبوكم وزير علشان تتكلموا فى السياسة”، ”طيب احنا هنعلمكم الأدب علشان تبطلوا مناكفة تاني”..ثم راح، وباشارة منه، يطلق علينا رجاله، الذين انقضوا علينا كالوحوش الكاسرة، ليحلقوا رؤوسنا بطريقة غريبة، حيث مرروا ماكينات الحلاقة الزيرو، لتفتح مجرى فى رؤوسنا، بالطول والعرض، ثم يتركوا باقى الرأس دون حلاقة، فى محاولة لكسر معنوياتنا منذ اللحظات الأولى لايداعنا الليمان.

بعد التجريدة «المقيتة» لحلق رؤوسنا بهذه الطريقة، بدأت المرحلة الثانية فى التعامل معنا، حيث فوجئنا بصفين طويلين من الجنود ذوى الأحجام الضخمة يتراصون فى مواجهة بعضهما البعض، وبينهما ممر بسيط، بالكاد نستطيع تجاوزه..كان الجنود يحملون فى أيديهم عصى كهربائية سوداء من الجلد.. كانت النية منعقدة لاخضاعنا لحفلة تعذيب مع بداية أول يوم لنا داخل سجن ليمان طرة..فى لمح البصر، ودون مقدمات ، أصدر مأمور الليمان تعليماته للجنود بالانقضاض علينا، فراحت ضربات العصى السوداء المكهربة تنهمر علينا، من اليمين، ومن الشمال، ومن الأمام، ومن الخلف.. ورحنا نقاوم بكل مانملك من قوة، بينما الطابور الطويل، للجنود لايريد أن ينتهي.

تحملنا ضربات العصى المكهربة بكل إباء، فنظر الينا مأمور الليمان وهو يكاد ينفجر من الغيظ، حيث طلب من مخبر بالسجن، يدعى ”عطية” وأحد الجنود أن يواصلوا ضربنا بالعصى، حتى باب عنبر “٢” الذى أودعونا فيه، حيث كانت أصوات أعضاء الجماعة الاسلامية من المعتقلين تتعالى بتلاوة آيات من القرآن الكريم، بينما تم إيداع أخى محمود مع العشرات من المساجين السياسيين من أصحاب التوجهات الناصرية واليسارية، بينما تم إيداعى أنا فى زنزانة جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بزعامة الشيخ يوسف البدرى الذى كان متلهفًا يريد أن يعرف حقيقة الأوضاع فى الخارج، وفى اليوم التالى طلبت ضرورة نقلى من هذه الزنزانة إلى حيث الزنزانة المسجون فيها أخى محمود بعد التفريق بيننا، وقد استطعت بالفعل فى اليوم التالى اجبارهم على سجنى فى زنزانة واحدة.. رحنا ننخرط بسرعة مع بقية المعتقلين السياسيين، قضى شقيقى محمود نحو الشهر ونصف الشهر، بينما قضيت أنا قرابة الشهرين ونصف الشهر، قبل أن يطلق سراحنا.
معاملة غير آدمية.

كانت المعاملة داخل الزنازين غير آدمية، أوامر السجن تمنعنا من مغادرة الزنزانة أكثر من ربع الساعة خلال الـ٢٤ساعة، فقط للتريض، ودخول الحمامات، منعوا عنا الطعام الخارجي، والصحف، حتى الراديو الصغير الذى كنا نحاول معرفة أخبار الدنيا من خلاله، تم سحبه فى واحدة من الجولات التفتيشية المفاجئة، وهو مادفع العشرات من المعتقلين للاضراب عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة..وكان من النوادر فى تلك الفترة، حدوث خلاف شديد بينى وبين شقيقى محمود، حول من الذى سيدخل الاضراب عن الطعام من أولًا، كان كل منا يريد أن يقوم هو بالاضراب بدلا من شقيقه، ولكننى صممت على الإضراب واستبعاد أخى محمود، حيث قضيت أربعة عشر يوما فى سجن انفرادى بعنبر التأديب، قبل أن نفك الاضراب عن الطعام، بعد رضوخ ادارة السجن لبعض مطالبنا، ومنها حقنا فى الطعام من الخارج، وقراءة الصحف.

كان يجلس إلى جوارى فى زنزانة التأديب عماد بدر الدين أبو غازى -الذى أصبح وزيرًا للثقافة بعد أحداث 25 يناير – وزميل أخر، كانت الزنزانة مظلمة إلا من ضوء بسيط، ولا يسمح لنا بالخروج إلا وقت قصير لقضاء الحاجة.

فى اليوم الأول للإضراب عن الطعام شعرنا بحالة شديدة من الجوع، تحملنا بكل صبر وإناة، مضت الساعات بطيئة، حاولت النوم فى مساء هذا اليوم إلا أننى لم استطع إلا فى وقت متأخر.

وفى صباح اليوم التالى خرجنا لدقائق معدودة، لم يكن أمامنا سوى الماء، وكان سجن التأديب معزولًا تماما، وقد تم إعداده لتكدير المشاغبين من المساجين.

بدأنا نستعيد الذكريات والحكايات ونحن قابعين فى الزنزانة، وعندما حل مساء ذلك اليوم راح عماد بدر الدين أبو غازى يحكى لنا عن لذة طعام الدجاج المحشو، شعرت بالجوع كما لم أشعر من قبل، ورويدًا رويدًا اسلمت رأسى للنوم..
فى اليوم الثالث بدأت أشعر أننى فى عالم آخر، وأن جسدى يكاد يكون محلقًا فى الأجواء، ومع كل يوم يمضى يأتى إلينا ضابط كبير محاولًا إثنائنا عن الاستمرار فى الإضراب إلا أننا كنا مصرين على ذلك.

وفى اليوم الرابع عشر وصل إلى السجن ضابط كبير من رئاسة الجمهورية، وكان معه قرار بالإفراج عنى لاصطحابى إلى لقاء رئيس الجمهورية حسنى مبارك الذى ضم 31 شخصًا من القيادات السياسية والحزبية المسجونة.. بينما أفرج عن شقيقى محمود فى وقت سابق.
لم يصدق مأمور السجن أن هذا الشاب الذى كان عرضة للضرب والتنكيل والتعذيب النفسى مطلوبًا لمقابلة رئيس الجمهورية، سعى بكل ما يملك من أجل عرقلة ذلك، وعندما رأنى الضابط الموفد من رئاسة الجمهورية فى حالة إعياء شديد بعد إنهاء الإضراب اتصل بقيادته وأبلغنى صعوبة اصطحابى بهذه الطريقة..

مضى الضابط وبقيت فى السجن على وعد بالخروج فى الدفعة القادمة، لم تتحسن الأحوال كثيرًا فبدأت مع آخرين إضرابًا عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، حتى تم الاستجابة لكافة المطالب، الزيارات وفتح الزنازين والصحف والأغذية.

وفى يوم 27 نوفمبر 1981 صدر قرار بالإفراج عن الدفعة الثانية، وتم الإفراج عنى فى الدفعة التى رافقنى فيها الشيخ عمر التلمسانى مرشد الإخوان وحمدين صباحى وآخرين.

عدت إلى منزلى بعد أن نشرت الصحف صورتى وأنا خارج من السجن، مضيت إلى بلدتى حيث كان فى انتظارى مهرجان كبير، أما أمى فقد كانت الدموع تنهمر من عينيها، وعندما نظرت إليها خلسة، مسحت دموعها وقالت بصوت هادىء: دى دموع الفرح يامحمد، بس كفاية ياولدى وياريت تكون آخر مرة، ابتسمت كما هى العادة، لكننى كنت على يقين أننى لن استطيع أن ألبى طلبها..

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى