منحت نفسك مني حق الاستقالة ومنحت نفسي حق القبول

بسمة حجازي
منذ زمن وبابي بعدك في سبات .
طرقاتٌ خفيفةٌ مبتلة برذاذ مطر أعرفه ، أحِس رطوبتَه في قلبي ، تملأ أنفاسي منه رائحةُ الأرض الممزوجةِ بالياسمين والترابِ حديثِ العهد بالمطر …
أقف في مكاني متسمرةً يملؤني مزيجٌ من غليان الفكر والذاكرة …
إنه آخرُ الليل والعتمة ، وكانونُ يجلدُ ظهورَ الحطابين ، وموقدي حشرجَ في صدره سؤالُ الحطبِ ، ولا حطب ، وأنا أقف على باب العمر كمصباحِ شارعٍ قديم بقدمٍ خشبية أوجَعتْها المساميرُ وعبثُ الطفولة ، ومصابيح الشارع يا سيدي تفتحُ عينها للمارين في الليل ما لم يفقأها أحدُهم بحجر ، وحجارتُك كثيرةٌ عند قدمي ..
وصوت أمي من خلف نافذتي الشمطاء يغزو ليلي يصهل في أذني وأنا أراها منسكبةً على وعاء الغسيل تمسك بقطَعِه ، قطعةً قطعة ، تفرُكها ثم تغطّسها قليلا في الماء لتعود فتدعكها بما تبقى من قطعةِ الصابون التي يجب أن تكون من الصابون النابلسي الجيد ليزيل ما تبهرجت به الملابس من كل ألوان البقع وأتربة الشارع الذي استحم بها إخوتي الصغار وهم يلعبون ، والشارع في ذاك الزمن كان هو نادي الطفولة الأول ومرتعَها الوحيد ……
تفرك الملابس وصوتها يغسل قلبها مما نعلم جميعا ألمَه ونشاطرها فيه وعيوننا يملؤها الحزن عليها وهي لا تمل ترداد هذه المقطوعة التي استقرت في ذاكرتي وأبت أن تفارق صيوان أذني وهي تلبس صوتَ أمي الحزين ….
” يبدو أن الأمهات يورِثن بناتهن كل شيء ، حتى بعض ملامح القدر ” …
مازال صوتها يعبث بي وهي تردد بألمٍ وخشوع …..
يا شجرةَ بالدار حاميكي أسد
وِتْكَسَّرتْ لِغْصان من كُثرِ الحَسد
نِحْنا زرعنا الزرع والغيرِ حصد
يا حسرِتي عَبُّو القمح بِاعْدالنا
…………………
هل سمعتَها من قبل ؟؟
تعال أعطيك أذني ، لا أحد غيرك يفهمني ، ولا سواك يتحسس نشيجي وأنا أردد معها :
نِحْنا زرعنا الزرع والغيرِ حصد
يا حسرِتي عَبُّو القمح بِاعْدالنا …..
أعلم أنك أنت الطارق الواقف خلف الباب ، وأنا أقف هنا دونك بنشوة ممزوجة بالكثير من الوجع وشيء من الذهول ،
ولكن …..
ماذا لو تمرد الظل على صاحبه ، واعتصم الحبر في المحابر ، وأبى الصوت مغادرة الحناجر ؟
ماذا لو توقفت الأرض عن الدوران ، ووقفت مكاني لا أبرحه ، لا أفتح لك ، ولا أُسْكِتُ صوتَ أمي؟ …
عذرا ، سيدي
منحت نفسك مني حق الاستقالة ومنحت نفسي حق القبول

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى