سامي ابو سالم يكتب من غزة : “سيلفي” مع امه علي فراش الموت

نتقدم بخالص التعازي للزميل الصحفي… بوفاة والدته المرحومة الحاجة…”، هذا نص رسالة نصية من مؤسسة صحفية وصلت على الهاتف المحمول، لكن لِبُعد المسافة وأسباب أخرى، حاولت إرسال تعزية على صفحته على “الفيسبوك”، فتفاجأت به ينشر صورة “سلفي” له مع أمه على فراش الموت وهي مغمى عليها، متوفاة أو تحتضر.
قبل أن أنقر أزرار لوحة المفاتيح لكتابة التعزية تسمرت عيناي على الصورة، من هذا؟ أيعقل أن يلتقط صورة مع أمه المحتضرة؟ مشهد مهين له ولأمه التي ندعو لها بالرحمة، عشرات الأسئلة فرضت نفسها، كيف التقط الصورة؟ ألا يوجد لك صورة مع أمك إلا على فراش الموت؟ وكيف تجرأت؟.
هذا نموذج للكثير من الصور الذاتية “سيلفي” التي ينشرها أشخاص في تلك اللحظات المتخمة بالسكِينة والمشاعر المتضاربة والخوف، تكون القلوب والأعين معلقة بالسماء، وبكل ما يؤمِّن به، الرجاء والألم والخضوع والتسليم يكونوا أسياد الموقف، عسى الخالق أن يؤجل صعود الروح إلى بارئها.
في هذه اللحظة “الحاسمة” كيف يخطر على باله أن يلتقط صورة لإنسان يحتضر؟ يمتشق هاتفه النقال، يدخل إلى قائمة الخيارات، كاميرا، “سيلفي” ثم يركز العدسة الأمامية ليلتقط صورة لنفسه، ويحرص أن يكون المحتضَر في الصورة، وكما يقال “إحنا في إيه وإنت في إيه”.
تشعر وكأنه حضر لالتقاط الصورة، وليس للاهتمام بأمه أو ليعود المريض، أو يشارك جيرانه وأهله الألم!! ألا يوجد رادع؟.
مشهد آخر، في أحد مقاطع الفيديو الصادمة، كهل يتمدد على سرير المستشفى في غرفة العناية المكثفة، محلول الجلوكوز (وغيره) تلتصق به من كل جانب.. في نهاية المطاف يرتعش الكهل ويشهق شهيقًا متقطعًا… خجلت من نفسي وأنا أنظر إليه، أوقفت مشاهدة الفيديو، قرأت ما كتبه “الناشر”، “رحمة الله على الحاج فلان… اللحظات الأخيرة.”
أين احترام الخصوصية؟ كيف تجرأ هذا الذي صوّر، وكيف سمح له من تواجدوا حوله؟ ومن أعطاه الحق بالتصوير؟ ومن أعطاه الحق بالنشر؟ وأين حرمة الموت؟ هل هذا الذي يحتضر راض عن النشر؟ أو أحد من عائلته؟ وعشرات الأسئلة التي لا تجد لها أجابة.
إذا كان المرء يحاول جاهدًا أن ينتقي أفضل صورة له عند نشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، فمن حق المريض، أو مصاب في حادث ألا تنشر صورة له إلا وهو في أفضل مظهر.
أعتقد أن الثورة المعلوماتية، وعلى رأسها وسائل “التواصل الاجتماعي” فتحت المجال لكل من “هب ودب” للنشر والترويج دون حسيب أو رقيب.. باتت القضية أشبه بمن يعاني من كبت ما، وفجأة يود أن يفرغ كبته كالثور الهائج، حتى وإن كان اعتداءً على خصوصية المرضى.
في بعض الدول يحظر تصوير ونشر صور الأطفال إلا بإذن من ذويهم، لأن الطفل القاصر لا يستطيع أن يحدد ما إذا كان له حقوق قانونية أو غير ذلك، وبالقياس نأتي إلى الأمثلة المذكورة، لا يجوز تصوير ونشر هذه الصور بدون إذن ذوي المحتضر، والأفضل عدم نشرها احترامًا لهم، ولحرمة الموت، سيما وأننا نتحدث عن تصوير في مكان خاص، ووضع خاص لمواطنين من عامة الشعب، ليسوا ذوي مناصب عليا، أو من ذوي الشأن.
لكن الأدهى أحيانًا أن من يلتقط الصورة هو ابن، أخ، حفيد، ما يجعلك تعيش في دوامة تساؤلات كيف تجرد هذا الشخص من إنسانيته من أجل صورة ليس لها معنى!.
من معايير حرية الصحافة هو حق الجمهور في المعرفة، هل الجمهور معني أن يرى الحاج فلان يلفظ أنفاسه الأخيرة؟! هل الجمهور يهمه أن يرى النزع الأخير لمريض في غرفة العناية المكثفة أو في بيته؟ ماذا سيضفي ذلك للمعرفة، وإن لم يعرف ماذا سينقصه؟ وكما ذكرنا أن الحديث عن مواطنين من عامة الشعب.
يفترض على الجهات المختصة، رسمية ومجتمعية ونقابية وغيرها، أن تضع ضوابط، ولنسمها ضوابط أخلاقية “ذوقية” أدبية (على الأقل) لهذا التهوّر، بما في ذلك حملات توعية وتهذيب، باستخدام التواصل الاجتماعي أيضًا، ولا ضير لو كان هناك رادع قانوني للجم الفَلَس الأدبي، وانتهاك الخصوصية، واحترام الآخرين أحياءً أو أمواتًا.

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى