ثمن الانتقام قصه لمحمد يوسف

خلق الله آدم ليكون نواة النشأة و شرارة البداية ، فطره على حب الاجتماع و جبله على المشاركة و الاستماع ، ثم ظهرت من ذريته القبائل و المجتمعات و نشأت بأيديهم المدن و الحضارات . فعاش الإنسان بين أحضان قومه و عائلته و تنعم تحت فيافي وطنه و قريته ، فاستقى من تلكم المنابع حبه و انتجب من تلكم المغارس عشقه حتى نظم حبه شعرا و صقل عشقه نثرا ، و لكن الحياة تعلمنا أن المألوف ليس سنتها و أن الدوام ليس مسلكها ، فكم أبدت لنا عن حكايات قاسية رسخت في الأفكار، و صور مرعبة ما فارقت الأنظار ، و من تلكم الفرائد انتقيت لكم قصتي :
سطع نجم جديد في فلك أوروبا المعتمة و أشرقت بداية أخرى من بين تلال فرنسا الفسيحة . انطلقت الجحافل مع صرخات الجنود الطموحة ، نعم ، لقد كان النجم نابليون ، و كانت الوجهة هي النمسا ، فهناك امتدت خيوط شمسه البراقة و لمست أيادي أمانيه سماء المجد الخفاقة .
و في عام 1809 حطت رجلي نابليون من على جواده على مشارف النمسا و استعد لفتحه المجيد و نصره الجديد ، و لكن الأقدار ليست سبيلا ممهدا محفوفا بالورود ، فهاهي الجيوش النمساوية تمخر الجبال و التلال نحو ساحة النزال ، و كان ما لم يتوقعه القائد الطموح ، لتنتصر جيوش النمساويين و تدحر الغازي الفرنسي و ترده القهقرى .
و لكنه نابليون الذي قال يوما : ” لا شيء مستحيل تحت الشمس ” ، أدرك بفكره أن انتصاره على هؤلاء الأشداء لن يكون بالسلاح بل بالخداع ، و أن بلادهم التي تعج بالدهاليز التضاريسية ستعوقه نحو مراده المنشود ، و هنا تغيرت المعايير و انقلبت المقادير ، فأمر ضباطه و خاصته بالبحث عن رجل مناسب ليكون عينه الخفية و يده السرية ، فكان ما أمر به ، و انطلقوا يبحثون في كل شبر و ركن حتى وقعت أعينهم على ذلك النمساوي العاثر .
كان رجلا قد امتهن التهريب مصدرا لقوته ، يهرب البضائع بين الحدود و يتجنب تحت ستار الليل بطش الجنود ، لقد علم ضباط نابليون أنه الرجل المناسب لأداء ما يريده قائدهم ، خبير بفجاج هذه الربوع العصية ، عالم بأسرارها الخفية ، و فوق ذلك كان فقيرا ، لربما بضع قطع من النقود تجعله عبدا مأمورا.
وهذا ما حصل بالضبط ، عرض عليه مبلغ من المال مقابل أن يجمع أي معلومات عسكرية تفيد الفرنسيين و توقع بجحافل النمساويين ، رغم معرفة هذا الرجل بهوية هذا الجيش و مراد نابليون و إدراكه لخطورة ما يفعله و جسيم ما يرتكبه ، إلا أنه لم يكتفي بهذا كله ليسمع همس ضميره المكلوم فاغتصب حق وطنه و أهله و كل ما تمثله إنسانيته و انتمائه من دون جريرة فقبل العرض و استعد ليلعب دور الخائن ، و طبعا لم يكن نابليون ليقبل بمعلومات عادية ، و هذا ما استوعبه هذا الخائن ، فسعى ليرضي معبودة الجديد بأخبار ستكون مقتلا بالنسبة للنمسا .
بحث هذا الخائن عن أي معلومات يمكن لها أن تتمم رضا نابليون و أحلامه ، و هنا تذكر معقلا قديما قد احتضنته شماريخ البراري الخضراء و حجبته قممها الشماء ، هناك حيث اعتاد الجيش النمساوي الاحتماء ، فكانت لهم القلب و دفأ الإيواء .
تقدم إلى نابليون بخبر هذا المعقل و وافاه بمجمل ما رآه هناك و سمعه ، و بالطبع فلقد كانت هذه الأخبار كفيلة بتحريك الجيش الفرنسي و الانطلاق لرد المكيال بمكيالين ، فكانت معركة مارخ فيلد و كان النصر الذي ابتغاه منذ البداية و حان ميعاد المكافأة و الأداء .
سار الخائن بخطوات ثابتة تملأها النرجسية العمياء و اللهفة الخرقاء ، و بين الحشود و الجنود وقف هناك يفرك يديه اشتياقا لصرير النقود ، رمى نابليون بتلك الصرة المثقلة إلى الأرض فانكب المشتاق على حبيبه أمام الحاضرين ، و ما إن تأكد من نيله الجائزة حتى انصرف إلى الحاكم الجديد و قال : ” سيدي العظيم يشرفني إن أصافح قائدا عظيما مثلك ” ، هنا حق للمتفكرين الذهول فلن يستقبل القلب هذا الكلام بالقبول ، ربما قال قائل أجبرته مرارة الفقر على فعله أو نسي حظا مما أنعم عليه وطنه و لكنه هنا ألغى كل التعليلات و تجاوزها إلى ما يستدعي الاشمئزاز و العجب ، فهنا رد نابليون مبادرا:”إما إنا فلا يشرفني أن أصافح خائنا لوطنه مثلك” ، ساد صمت الذهول الكل من فعل نابليون و استغربوا أكثر عندما بصق عليه فانصرف الخائن مدحورا نحو الخارج ، لتتبعه كلمات لازالت ملخصا لحال الخائن و الخيانة ……
” مثل الخائن لوطنه كمثل السارق من مال أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه و لا اللصوص تشكره “.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي الزائر،،يرجى إيقاف حاجب الإعلانات ،، فمساهمتك تعمل على استمرار تقديم خدماتنا