في البداية ، أرجو أن تنتبهوا جيداً للسؤال التالي:-
-هل توجد في يومنا هذا ، وعلى سطح كوكب الأرض ، شعب ما .. لديه (ثقافة) من الممكن أن نُطلِق عليها وصف “ثقافة_أصلية”؟؟
و”أصلية” هنا تعني أن:- [تلك (الثقافة) نشأت وتتطورت لدى هذا الشعب بشكل مستقل عن باقي (الثقافات/والشعوب) المُحيطَة به ، وأن تلك (الثقافة) ماتزال تحتوي على جميع التقاليد المحلية القديمة الخاصة بها ، كما أنها لم تتأثر ب(الثقافات/والحضارات) الخارجية الأخرى أبداً].
الإجابة على هذا السؤال قولاً واحداً:-
-بالطبع لا ، فلا توجد الآن (ثقافة) لدى شعب من الشعوب يمكننا القول بأنها “ثقافة أصلية” ، أو بأنها “ثقافة صافية تخلو من شوائب الثقافات الأخرى” -إن جاز التعبير!!-.
لقد تغيرت كل (الثقافات) خلال القرون القليلة الماضية بسبب طوفان من التأثيرات العالمية ، أدت إلى مزج العديد من تلك (الثقافات) ودمجها معاً لدرجة أنه أصبح من المُتعذر معرفة أصولها!!.
وأحد أكثر الأمثلة إثارة للاهتمام على هذه (العولمة) ، هو ما نُطلِق عليه الآن مُصطلَح [الأكلات_الأصلية]!!!.
-فا سيادتك ، عندما تدخل إلى (مطعم إيطالي) ، سوف يكون توقعك البديهي لطبق مكرونة (الإسباجيتي) هو أن يكون غارقاً في صلصة (الطماطم) اللذيذة!!.
-وعندما تكون في (مطعم هندي) ، فإنك ستنتظر أن يقوموا بإضافة (الفلفل الحار) في كل شيء تقريباً ، حتى الحلويات!!
-بينما إذا كنت داخل (مطعم أرچنتيني) ، ستتوقع أنه سيكون بإمكانك الاختيار من بين عشرات الأصناف من شرائح (لحم البقر) المَطهُو بطرق مختلفة!!!
-وبالطبع ، فإن أبرز ما تتوقع وجوده عندما تجلس على أي (مقهى سويسري) ، هو شراب (الشوكولاتة) الساخن الكثيف المغطى بطبقة من القشدة المخفوقة!!
أليس كذلك؟…..
عزيزي القارئ ، دعني أوضح لك أمراً بسيطاً:-
**لا شيء من تلك الأطعمة كان أصلياً في تلك الدول!!!**
-فأصل كل من (الطماطم) و(الفلفل الحار) و(الكاكاو)
هو (المكسيك) ، وقد وصلت هذه الأصناف إلى (أوروبا) و(آسيا) بعد أن احتل (الأسبان) (المكسيك) منذ 550 سنة تقريباً!!
بمعنى آخر .. فإنه:-
-لا الإمبراطور الروماني (يوليوس قيصر) ، ولا الشاعر (دانتي اليغييري) قد قاما بغرس شَوكَتَيهِما في طبق (مكرونة الإسباجيتي) منقوعة في (الطماطم) طوال حياتيهما!!..
بل إن (الشوكة) نفسها لم تكن قد أُختُرِعَت بعد!!
-ولم يَنبَهِر (بوذا) بطعم (الفلفل الحار) في يوم من الأيام!!.
-ولم يشرب أي من (فرسان الحملات الصليبية) القادمين من غرب (أوروبا) شراب (الشوكولاته) الساخنه قَط!!.
-ومن حوالي 400 سنة فقط ، كانت شريحة (اللحم) الوحيدة التي بإمكانك الحصول عليها في (الأرچنتين) كانت من حيوان (اللاما)!!!!.
تريد مثال آخر؟ .. حسناً:-
*کَرَّسَت لنا أفلام (هوليوود) صورة عن سكان أمريكا الأصليين -أي الهنود الحمر- كفرسان شجعان ، ماهرين في ركوب الخيل ، حيث يستطيعون بواسطة خيولهم السيطرة على خيول عربات الغزاة الأوروبيين ببسالة ، وذلك دفاعاً عن أراضي أسلافهم!!.
كل هذا جميل جداً ورومانسي للغاية .. ولكن:-
-من المعروف والثابت علمياً وتاريخياً أنه لم تكن هناك خيول في (الأمريكتين) وقت أن تم اكتشافهما!!!..
فكل الخيول الموجودة الآن في قارتي (أمريكا الشمالية) و(أمريكا الجنوبية) تأتي أصولها من الخيول التي جلبها (الأوروبيون) معهم لأول مرة منذ 500 سنة فقط!!!..
ولم يبدأ (الهنود الحمر) في التعود على ركوب ذلك الحيوان -الجديد عليهم!!- إلا في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي!!!.
وغير ذلك من الأمثلة الكثير والكثير .. وكلها إن دَلَّت ، فإنها تدل على امتزاج الثقافات والحضارات بين الشعوب على مر التاريخ.
?فمتى إذن؟؟ .. وكيف بدأ ذلك التشابك_الثقافي) في الحدوث(؟؟؟
من نظرة قريبة ورؤية سطحية نوعاً ما .. يرى البعض أن المرحلة الأهم في عملية (توحيد الثقافات) كانت في القرون القليلة الماضية فقط!! .. كان ذلك حين نمت (الإمبراطوريات) ، واشتد زخم (التجارة)..
فتشكلت روابط أقوى من أي وقت مضى بين شعوب كل من قارات [أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين وأستراليا]..
ومن خلالها ، وصل (الفلفل الحار) إلى الأكل (الهندي) ، وبدأت (الماشية الأسبانية) ترعى في (الأرچنتين) ، واستَخدم (الطَليَان) صلصة (الطماطم) مع مكرونة (الإسباجيتي).
لكن ، ومن نظرة أبعد ومنظور أعمق .. سنجد أن التطورات الأهم قد حدثت فعلياً خلال [الألفية الأولى قبل الميلاد].. وذلك عندما تم طرح فكرة (النظام_العالمي) للمرة الأولى!!!
فلِآلاف السنوات السابقة لتلك الفترة ، كان (التاريخ البشري) يتحرك ببطء شديد نحو شكل ما مِن أشكال (الوحدة العالمية).. وكانت فكرة [نظام عالمي واحد يسيطر على العالم بأكمله] ما تزال فكرة غريبة تماماً وغير مفهومة عند معظم البشر!!..
والسبب في ذلك ، أن (العقل البشري) قد تطور ليُفَكِّر في (الناس) على أنهم منقسمين دائماً إلى فئتين:-
(نَحن) .. و (هُم).
-تعني “نحن”:-[[المجموعة المحيطة بك مباشرة ، أيا من تكون]].
-بينما تعني “هُم”:-[[أي أحد آخر غير تلك المجموعة المحيطة بك]].
°°وفي الواقع ، فإن جميع الكائنات الحية دائماً ما وُجِدَ عندها مفهوم (نحن) و (هُم)..
فلن ترى في الطبيعة أبداً كائن حي ذا طابع اجتماعي ومُوَجَّه بمصالح نوعه الذي ينتمي إليه!!.
-فلا تهتم (القردة) مثلاً ، بمصالح (الجنس القردي) -على وزن الجنس البشري-..
-ولن تجد (زرافة) ترفع لافتة مكتوب عليها “من أجل مجتمع عالمي أفضل للزرافات!!!”..
-ولن يقوم (أسد) مُسَيطِر بمحاولة أن يصبح مَلِكاً على كل أسود الأرض!!..
-ولا يمكن أن تجد في مدخل (خلية نحل) شعار يقول:-
“یا عاملات النحل ، إتحِدن!!!”
°°بدأ البشر الأوائل -والذين كانوا يعيشون في جماعات صغيرة محدودة العدد- بالتعاون وبشكل تدريجي مع الغُرباء ، والغرباء هم أفراد القبائل الأخرى المجاورة لهم ، والذين تخيلوهم کا “إِخوَة” أو “أصدِقاء”.
غير أن هذه (الأُخُوَّة) أو (الصداقة) لم تكن عامة أو دائمة!!!..
ففي مكان ما .. في الوادي المجاور ، أو وراء سلسلة الجبال تلك ، كان هناك مَن يُمكِن أن يَبعَث فيهم باستمرار ذلك الشعور .. “نحن” و “هُم”!!!
فعلى سبيل المثال ، عندما قام الملك (مينا نارمر) بتوحيد دولة (إيجبت/مصر) حوالي سنة 4000 ق.م ، أَوضَحَ للمصريين أن هناك حدود لدولتهم هذه ، وأن “البرابرة” يتربصون بهم وراء تلك الحدود!!
دائماً ، كان هناك (نَحنُ) .. و (هُم).
°°ثم جاءت الألفية الأولى قبل الميلاد ، لتشهد ظهور ثلاثة أنظمة عالمية مُحتَمَلَة!!!..
استطاع أنصار هذه الأنظمة ، ولأول مرة .. تَخَيُّل العالم بأكمله والبشرية جمعاء كَوِحدة واحِدة محكومة بمجموعة مُوحَّدَة من القوانين ، أي أن نصبح كلنا “نحن”.. -أو بأن تكون هناك احتمالية كبيرة لحدوث ذلك على الأقل- .. بينما بمرور الزمن ، لن يصبح هناك “هُم”!!.
?وبحسب التاريخ المُدَوَّن:-
*فإن النظام العالمي (الأول) في الظهور على مسرح الأحداث كان (إقتصادياً):- وهو (النظام المالي) .. [أي اختراع التجارة ، ثم اختراع النقود].
**وكان النظام العالمي (الثاني) في الظهور نظاماً (سياسياً):-
وهو (النظام الإمبراطوري) .. [أي أن تحكم دولة واحدة مساحة شاسعة من الأراضي لعدد كبير من الدول].
***أما النظام العالمي (الثالث) ، فقد كان (دينياً):-
وهو (نظام الديانات العالمية) .. [حيث يُؤمِن جميع البشر بنفس الإله .. كالمسيحية والإسلام].
وقد حاول كل نظام من تلك النُظُم الثلاثة في فرض نفسه ك(نظام عالمي واحد وجامع لكل البشر على سطح هذا الكوكب)..
ولا تزال هذه المحاولات قائمة .. إلى يومنا هذا!!.
في المقالات القادمة بإذن الله ، سنقوم -وفي سرد بحثي دقيق وعرض تاريخي شَيِّق- بالتحدث عن (#أصول) تلك النُظُم العالمية الثلاثة والتفاصيل التي أحاطت بنَشأَتِها.
وستكون البداية في المقال القادم مع النظام العالمي (#الأول) و (#الأقدَم) في الظهور ، وهو (#النظام_الإقتصادي) .. و(اختراع التجارة وسَكّ العُملَة).
سنعرف:-
-أين وكيف ولمَ نَشَأ؟؟..
-وما مدى تأثيره على حياة البشر وثقافاتهم منذ أن بدأوا في تطبيقه وإلى الآن؟؟.
فقط ، انتظروا المقال الجديد بإذن الله تعالى من السلسلة التاريخية:-
(THE_ORIGINS) .. (الأصول)
تحياتي لكم جميعا
د.أحمد محسن الردَّاد