كتبت/هناءالسيد
مقال مع الدكتور/مصطفي على قرمد مدرس اصول اللغة بجامعة الازهر قبول مراجعتهم في أقوالهم وأفعالهم، وربما يغالون بأكثر من هذا، فيسمون الأشياء بغير حقيقتها، فلن تعدم عندهم أن تكون القسوة حزما، والتفريط لينا ورفقا، والتحلل من الثوابت تحضرا ورقيا، فليس مقالي لهؤلاء؛ حتى يجد التجرد إلى نفوسهم مدخلا، وإنما مقالي لمن تمثل قوله تعالى: ﴿وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾(الكهف:24)، ولمن اهتدى بقوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾(الكهف:66)، فالغاية عند من هذا سبيله هو تحري الصواب من دون جدل عقيم وبسط من القول سقيم، ويكفيك في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مثل للاقتداء، فحين راجعه الله تعالى في إعراضه عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه، بقوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾(عبس:1-4)،لم يضق صدره به، بل كَانَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِذَا رَآه يبسط له رداءه، ويقول: مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي، هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى المدِينَةِ مَرَّتَيْنِ».
كما راجعه أصحابه في كثير من الآثار المشهورة، فأذعن للصواب من دون أن يتأخر أو يتعلل، فراجعه الحباب بن المنذر حين اختار النبي صلى الله عليه وسلم مكانا ينزل فيه لملاقاة من أرادوا قتاله في بدر، فقام الحباب بن المنذر وقال: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالمكِيدَةُ؟
قَالَ: بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ.
قَالَ: فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ! انْطَلِقْ بِنَا إلَى أَدْنَى مَاءِ القَوْمِ…»
فلم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحقر رأيه، ولم ينهره، بل قال له أمام أصحابه: الرّأْيُ مَا أَشَارَ بِهِ الـحُبَابُ، وانطلقَ هو وأصحابه ينفذون مشورته.
إن قيمة المراجعة في إرساء الصواب مبدأً للاحتكام إليه وفي نبذ الخطأ والانصراف عنه، وليس في التشنيع على صاحبه والزراية به، وها هو صلى الله عليه وسلم يعطى المثل الواضح في حديث معاوية بن الحكم السُّلَمى، قال: «بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمَّيَاهُ! مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي؛ لِكَيْ أَسْكُتَ، سَكَتُّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَانِي، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَطُّ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، والله مَا ضَرَبَنِي وَلَا كَهَرَنِي وَلَا شَتَمَنِي، وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنما هي التكبير والتسبيح وتلاوة القرآن» صحيح ابن حبان:6/23.
والأمثلة على هذا التقويم النبوي عديدة تتسع أن يفرد لها كتب في صدور الناس، ويكون مدادها التعامل بهذا المبدأ بين الأفراد والجماعات، فلابد أن يسمع بعضنا بعضا، ويصحح بعضنا لبعض، فلم يستنكف من تعلموا من هذا الهدي النبوي أن ينصاعوا إلى الحق وإن حملهم عليه النساء، فحين قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «لا تزيدوا في مهر النساء على أربعين أوقية … فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقالت امرأة: ما ذاك لك، قال: ولمَ ؟ قالت: لأن الله عز وجل قال: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِينا﴾(النساء:20)قال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ».
فإذا ما تجردت النفسُ من هواها، وجدتَها طيعة للحق، منقادة إليه، وإذا ما اختلف بعضنا مع بعض في استبانته فلتكن وصية الشافعي ليونس بن عبد الأعلى لازمة له حين اختلف مع في مسألة من العلم فقال له: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا، وإن لم نتفق فى مسألة؟