جدلية الترف الفكري..!

بقلم :المصطفى جابر — و إعداد للنشر: الأعلامية أيمى حسين

لقد بات من الواضح هذه الأيام ان الآراء و المواقف في صلب المواضيع الجادة والقضايا المهمة قد أصبحت نوعا من الغوغائية والترف الفكري, إذا لم نقل الفراغ الكاسح الذي لا نهاية لمساره ولا يقدم اي معنى دقيق ومحدد, وموقفا ذا صلابة. ولا تنفع هذه الثرثرة في شيء غير اخترق حجاب كسر الصمت وإفساده تماما مثل ذلك يضرب ..كورقة بيضاء مليئة بالكلمات ان لم نقل الكتابات من وحي قلم مثل بشرا سويا فامتثلت لأمره كرها او لوحة فنية او قصيدة شعر او فلسفة تغوص في أعماق العقل والواقع لتعطيه بعده الحقيقي ومعناه العميق, ان الكلمات التي وصفت بالقليل الدال لنقيض الكثير من المذل, والتي لا توصلك على حلبة سباق المعنى الى موقف, والتفسير لهذه المفارقة التي اتسع صيتها هذه الأيام هو ان من يفهمون قلما يتكلمون غاضيين أنظارهم تاركين المساحات الشاسعة بينهم وبين ساحات الإعلام والثقافة والأدب والفن والسياسة وحلبات الفكر لمن حولوا امة بحضارة عريقة الى ظاهرة صوتية في نظر أعدائها خصوصا عند كم من الفضائيات, ولكنها في النهاية هي عبارة عن زبد يصعد قليلا بتراكمه الكثير ثم يذوب ويختفي فجأة فلا يظهر منه شيئا, وبناءا على هذا المنوال فان كتابا واحدا تعب مؤلفه, وشقي بالبحث والتوثيق أفضل من ألاف الملفات المؤذاة عنها والتي كتبت بأناقة وتسطير فسفوري أخاذ بغلاف لامع طمعا في جلب عطف المقرر وتباهيا أمام الخصوم كل من اجل ان تسد فراغا في الرفوف الفارغة جنبا الى جنب مع تلك المرفوضة والمحتفظ بها في خانة الحفظ, فثنائية الكم والنوع تشعبت ميادينها, واتسعت دوائرها وتكاد تسطو الثرثرة على الإبداع والفكر, ويزحف كثير من العقم بالإلمام على القليل من الخصب الثقافي والمعرفي, سواء في المجالات المهنية المقننة او الثقافية, والسياسية, وحتى الأنشطة الاجتماعية الجموعية, والتربوية التعليمية.

ان إدارة مؤسسة واحدة جادة في ملفاتها, بطرق حديثة لا تقتصر على شخص واحد بل على عدة موارد بشرية يقودهم شخصاً واحدا أو ما نسميه المدير العام، بجانبه مسؤولون سواءً للمالية والحسابات أو لإدارة الملفات القانونية أو القضايا التجارية.. ، وكل هؤلاء يطلق عليهم لفظ معنى الإدارة، لانها تملك في يديها زمام أمور قضاياها ولها الحق في تصريفها وترتيبها بطريقة معينة للقيام بأكبر إنتاجية. خير من أسلوب إداري متسلط يقوم على نظرية أن الموظفين متهاونين، يستوجب تفقد عملهم كل حين، عديمي الأمانة تحكمهم الرقابة بقوانين صارمة، لأنهم أقل ذكاءً وفهماً ينفذون مهامهم من دون تفكير كالآلات، لا رأي لهم أو من يستمع لآرائهم .

كما أن صحيفة واحدة جادة أهم بما لا يقاس من عشرات الصحف لا تعنى إلا بالورق المصقول والألوان الصارخة, اما الفحوى و المعنى المقدم للقارئ فلا قيمة لهما إلا بإعادة استخلاصها مرة أخرى ضمن عملية تدبير النفايات لتصبح اوراقا بيضاء جديدة.
فجدلية الكم والنوع في الثقافة المعرفية استوقفت كثيرا من رواد الفلسفة وعباقرة الفكر, فبعض هؤلاء المفكرين يرون ان مغامرة الفرد الذي يتعب ويجتهد في ما يقدمه من انجازات وأفكار يعد نموذجا يحتفى به في هذا المجال. اما ما يحدث لدى كثير من الأشخاص حين يبلغون خريفهم, وينخر السوس فيهم ويهيمن الكم على النوع لديهم , وتسطو النظرة على السطح على الغوص في القعر وبالتالي يصبحون تمددا أفقيا وشبه قشرة هشة, وهذا ما نراه ونعيشه في ايامنا من اليتم والبؤس والتشرد في كل مناحي حياتنا حيث يتنافس الناس على عدد ما يملكون, وليس على قيمة ونوعية ما يفقهون, وهذا هو الفراغ الروحي الذي يعصف في كل جوانب الحياة ويحولها قصبة جافة ومفرغة حتى انها لا تصلح ان تكون نايا شجيا تخرج منه أعذب الألحان.

فهذه الظاهرة الطاغية في واقعنا بحاجة إلى استقراء وتأمل, والتفكير بعمق يتخطى الوصفات السطحية, فالكتب التي غيرت العالم قليلة جدا, ولا يزيد حجم الواحد منها عن حجم الكف , وكذلك الأقوال الخالدة والمأثورة والفلسفات الرائدة والصالحة لكل زمان واوان, وقد لا تملأ مجلدا واحدا من تلك الحيثيات الأنيقة والفصول اللصيقة والعبارات الرقيقة التي تتحدث عن قراءة لعدم فهم صاحبها لنفسه قبل طلب ملتمسه , بترهل فيه الكلمات ويتم الأفكار في المقاصد للإثبات, يحمل السلم بالعرض فضاقت الرؤية عليه واجدب العقل فصار يسبح في مساء الأشياء الغابرة, فلا مكان يصل إليه لان لا مكان يتوجه اليه, فالنور الفكري ينتصر على الظلام والعلم ضد الكبس في الأغوار

طوبيا اكسبريس
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى